فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء:
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}..
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه؛ إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها. وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد. إنما يسأل كل عن عمله، ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما.
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب.
كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدينا، مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا}.
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.
والآية تقرر سنة الله هذه. فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك. وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسننًا لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق، لأن الله لا يأمر بالفحشاء. لكن وجود المترفين في ذاته، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقًا.
وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة.
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجية القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب. الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به. والأمر ليس أمرًا توجيهيًا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق.
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها. وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرًا.
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح، قرنًا بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:
{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا}.
وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها، فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الاخرة جهنم عن استحقاق. فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات. ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا}.
والذي يريد الآخرة لابد أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، وينهض بتبعاتها، ويقيم سعيه لها على الإيمان. وليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة، إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية. ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك الإنسان نفسه، فلا يكون عبدًا لهذا المتاع.
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذمومًا مدحورًا، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورًا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم، وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء.
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام. فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله، الذي خلقه فسواه، وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.
على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله. سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها. وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه، فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء:
{كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك. وما كان عطاء ربك محظورا}.
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم، ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة. فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول. كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة؟
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا}.
فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، فهو هناك في الآخرة. هنالك في الرقعة الفسيحة، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {من كان يريد العاجلة} قال: من كان يريد بعمله الدنيا، {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ذاك به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {من كان يريد العاجلة} قال: من كانت همه ورغبته وطلبته ونيته عجل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطره إلى جهنم {يصلاها مذمومًا} في نقمة الله {مدحورًا} في عذاب الله. وفي قوله: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك سعيهم مشكورًا} قال: شكر الله له اليسير، وتجاوز عنه الكثير وفي قوله: {كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} أي: أن الله قسم الدنيا بين البر والفاجر، والآخرة: خصوصًا عند ربك للمتقين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية، عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {كلًا نمد} الآية. قال: كلًا نرزق في الدنيا البر والفاجر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي رضي الله عنه في قوله: {كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء} يقول: نمد الكفار والمؤمنين {من عطاء ربك} يقول: من الرزق.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {كلًا نمد} الآية قال: نرزق من أراد الدنيا، ونرزق من أراد الآخرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء} قال: هؤلاء أصحاب الدنيا، وهؤلاء أصحاب الآخرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء} هؤلاء أهل الدنيا، وهؤلاء أهل الآخرة {وما كان عطاء ربك محظورًا} قال ممنوعًا.
واخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {محظورًا} قال ممنوعًا.
وأخرج ابن جرير وأبن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} أي في الدنيا: {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا} وإن للمؤمنين في الجنة منازل وإن لهم فضائل بأعمالهم. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا} قال: إن أهل الجنة بعضهم فوق بعض درجات، الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه، والأسفل لا يرى أن فوقه أحدًا.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، عن سلمان رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع، إلا وضعه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول» ثم قرأ {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا}.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وهناد وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يصيب عبد من الدنيا شيئًا، إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان على الله كريمًا.
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {مذمومًا} يقول ملومًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {فتقعد مذمومًا} يقول: في نقمة الله {مخذولًا} في عذاب الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}.
قوله تعالى: {مَّن كَانَ}: {مَنْ} شرطيةٌ، و{عَجََّلْنا} جوابُه، و{ما يشاء} مفعولُه، و{لِمَنْ نريدُ} بدلُ بعضٍ من كل، من الضمير في {له} بإعادةِ العاملِ، و{لِمَنْ نريد} تقديرُه: لمَنْ نريدُ تعجيلَه له.
قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} جَعَلَ هنا تصييريةٌ.
قوله: {يَصْلاها} الجملةُ حالٌ: إمَّا من الضمير في {له} وإمَّا مِنْ {جهنَّم}، و{مَذْمُومًا} حالٌ مِنْ فاعلِ {يَصْلاها}. قيل: وفي الكلامِ حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل: مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه. وقيل: بل الأصل: مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق.
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}.
قوله تعالى: {سَعْيَهَا}: فيه وجهان، أحدُهُما: أنه مفعولٌ به لأنَّ المعنى: وعَمِل لها عملَها. والثاني: أنه مصدرٌ، و{لها}، أي: مِنْ أجلِها. قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل {سعى}.
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}.
قوله تعالى: {كُلًا نُّمِدُّ هؤلاء}: {كُلًا} منصوب بـ {نُمِدُّ} و{هؤلاء} بدلٌ، {وهؤلاء} عطفٌ عليه، أي: كلَّ فريق نُمِدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا تقديرٌ جيد. وقال الزمخشري في تقديرِه: كلَّ واحد من الفريقين نُمِدُّ. قال الشيخ: كذا قَدَّره الزمخشريُّ، وأعربوا {هؤلاء} بدلًا مِنْ {كُلًا} ولا يَصِحُّ أن يكونَ بدلًا مِنْ {كل} على تقدير: كلَّ واحد، لأنه إذ ذاك بدلُ من بعض، فينبغي أن يكونَ التقدير: كلَّ الفريقين.
و{مِنْ عَطَآءِ} متعلقٌ ب {نُمِدُّ}. والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول.
والمَحْظور: الممنوعُ، وأصله مِن الحَظْر وهو: جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة، والحَظيرة: ما يُعْمل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم، والمُحْتَظِر: مَنْ يعمل الحظيرة.
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}.
قوله تعالى: {كَيْفَ فَضَّلْنَا}: {كيف}نصبٌ: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على الحال، وهي معلِّقَةٌ {انظرْ} بمعنى فَكِّرْ، أو بمعنى أبصرْ. قوله: {وأكثر تَفْصيلًا}، أي: من درجاتِ الدنيا، ومِنْ تفضيلِ الدنيا.
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}.
قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ}: يجوز أن تكونَ على بابها، فينتصِبَ ما بعدها على الحال، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى صار فينتصبَ على الخبرية، وإليه ذهب الفراء والزمخشري، وأنشدوا في ذلك:
لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ ** ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ

من دون أن تلتقي الأَرْكابُ ** ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ

أي: ويَصير. والبصريون لا يَقيسون هذا، بل يَقْتَصِرون به على المَثَل في قولهم: شَحَذَ شفرتَه حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبَةٌ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}.
مَنْ رَضِيَ بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بَقِيَ عن نفيس الآخرة، ثم لا يحظى إلا بِقَدْر ما اشْتَمَّهُ، ثم يكون آنسَ ما به قلبًا وأشدَّ ما يكون به سكونًا.. ثم يُخْتَطَفُ عن نعمته، ولا يخصه بشيءٍ مما جمع من كرائمه، ويمنعه من قربه في الآخرة.. ولقد قيل:
يا غافلًا عن سماع الصوتْ ** إنْ لم تبادِرْ فهو الفوتْ

مَنْ لم تَزُلْ نعمته عاجلًا ** أزاله عن نعمته الموتْ

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}.
علامة مَنْ أراد الآخرةَ- على الحقيقة- أن يسعى لها سَعْيْها؛ فإرادةُ الآخرة إذا تجرَّدَتْ عن العمل لها كانت مجرَّد إرادة، ولا يكون السعيُ مشكورًا. قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: أي من المآلِ كما أنه مؤمِنٌ في الحال. ويقال وهو مؤمن أنَّ نجاته بفضله لا بسببه.
{فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} أي مقبولًا، ومع القبول بكون التضعيف والتكثير؛ فكما أن الصدقة يُرْبِيها كذلك طاعةُ العبدِ يُكْثِّرُها ويُنَمِّيها.
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}.
يجازي كلًا بِقَدْرِهِ؛ فَلِقَوْمٍ نجاة ولقومٍ درجات، ولقوم سلامة ولقومٍ كرامة، ولقومٍ مثوبتُه، ولقومٍ قربتُه.
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}.
التفضيلُ على أقسام، فالعُبَّاد فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في زكاء أعمالهم، والعارفون فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في صفاء أحوالهم، وزكاء الأعمال بالإخلاص، وصفاء الأحوال بالاستخلاص؛ فقومٌ تفاضلوا بصدق القَدَمِ، وقوم تفاضلوا بعلوِّ الهِمَم. والتفضيل في الآخرة أكبر: فالعُبَّادُ تفاضلهم بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم لَتَرَوْنَ أهلَ عِلَّيين كما ترون الكوكبَ الدريَّ في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم».
وأهلُ الحضرةِ تفاضلُهم بلطائفهم من الأُنْس بنسيم القربة بما لا بيانَ يصفه ولا عبارة، ولا رمز يدركه ولا إشارة. منهم من يشهده ويراه مرةً في الأسبوع، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة، فهم يجتمعون في الرؤية ويتفاوتون في نصيبِ كلِّ أحد، وليس كلُّ مَنْ يراه بالعين التي بها يراه صاحبه، وأنشد بعضهم:
لو يسمعون كما سمعتُ حديثها ** خَرَّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا

{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}.
الذي أشرك بالله أصبح مذمومًا من قِبَلِ الله، ومخذولًا من قِبَلِ مَنْ عَبَدَه من دون الله. اهـ.